الدولة الرستمية في تيارت : دولة العلم والتسامح
الدولة الرستمية في تيارت, هي واحدة من أهم الدول الإسلامية التي ظهرت في شمال إفريقيا خلال القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي). تأسست هذه الدولة على يد الإمام عبد الرحمن بن رستم الفارسي، وهو أحد أتباع المذهب الإباضي، واتخذت من تيارت (مدينة في الجزائر الحالية) عاصمة لها. ازدهرت الدولة الرستمية لعدة قرون، وكانت مركزًا للعلم والتسامح والتجارة في المنطقة.
نشأة الدولة الرستمية
بدأت فكرة إقامة الدولة الرستمية بعد فشل الثورة الإباضية التي قادها أبو حمزة الخارجي ضد الدولة العباسية في العراق. بعد هزيمة الإباضيين، هرب عدد كبير منهم إلى المغرب الأوسط (الجزائر الحالية) حيث استقروا في تيارت، التي كانت منطقة جبلية توفر لهم الحماية. في عام 144 هـ/ 761 م، أعلن عبد الرحمن بن رستم تأسيس الدولة الرستمية، وأصبح إمامها الأول.
عبد الرحمن بن رستم كان رجلاً متدينًا وعالمًا فاضلًا، وقد ركز جهوده على نشر المذهب الإباضي في المنطقة، كما اهتم ببناء الدولة على أسس قوية من العدل والتسامح. كان الإمام عبد الرحمن يدير شؤون الدولة بالتشاور مع مجلس من العلماء والفقهاء، مما جعل من حكمه مثالًا يُحتذى به في القيادة الإسلامية.
دور تيارت كعاصمة للدولة
اختيار تيارت كعاصمة للدولة الرستمية كان له أهمية استراتيجية كبيرة. تقع تيارت في منطقة جبلية محصنة، مما وفر لها حماية طبيعية ضد أي هجمات محتملة. كما كانت تيارت مركزًا تجاريًا هامًا بفضل موقعها الجغرافي الذي يربط بين جنوب الصحراء وشمال إفريقيا.
بجانب ذلك، أصبحت تيارت مركزًا للعلم والثقافة تحت حكم الرستميين. جذب العلماء والفقهاء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، حيث درسوا وعلّموا في مساجدها ومدارسها. اشتهرت العاصمة بأنها كانت منارة للفكر الإسلامي المتسامح، حيث عاش المسلمون من مختلف المذاهب بسلام وتعاون.
التسامح الديني في الدولة الرستمية
تميزت الدولة الرستمية بتسامحها الديني الفريد من نوعه في ذلك الزمن. رغم أن الرستميين كانوا يتبعون المذهب الإباضي، إلا أنهم سمحوا بحرية العبادة لأتباع المذاهب الأخرى. لم يكن هناك أي اضطهاد ديني أو محاولات لفرض المذهب الإباضي على الآخرين. هذا التسامح الديني جعل من الدولة الرستمية مكانًا جاذبًا للعلماء والمثقفين من مختلف المذاهب، وساهم في ازدهار الحياة الفكرية والثقافية في تيارت.
الاقتصاد والتجارة في الدولة الرستمية
اعتمد اقتصاد الدولة الرستمية بشكل كبير على التجارة. كانت تيارت تقع على طرق التجارة الرئيسية التي تربط بين الصحراء الكبرى والسواحل الشمالية لإفريقيا. ازدهرت التجارة في الدولة الرستمية بفضل النظام الإداري الجيد والأمن الذي وفرته الدولة على طرق القوافل. بالإضافة إلى ذلك، كان الرستميون نشطين في الزراعة والصناعات الحرفية، مما ساعد في تحقيق الاكتفاء الذاتي وتعزيز اقتصاد الدولة.
نهاية الدولة الرستمية
استمرت الدولة الرستمية في الازدهار لعدة قرون، ولكنها واجهت ضغوطًا متزايدة من الدول المجاورة، خاصة من الدولة الفاطمية التي كانت تسعى للسيطرة على شمال إفريقيا. في عام 296 هـ/ 909 م، سقطت الدولة الرستمية بعد هجوم شنته القوات الفاطمية على تيارت. رغم سقوطها، إلا أن تأثير الدولة الرستمية استمر لفترة طويلة، خاصة في مجال العلم والتسامح الديني.
الإرث الرستمي
تعد الدولة الرستمية واحدة من أهم الدول التي ساهمت في تشكيل التاريخ الإسلامي في شمال إفريقيا. إرثها الثقافي والعلمي ما زال يدرس حتى اليوم، حيث كانت مثالًا لدولة قائمة على التسامح الديني والعدل. كما أن تيارت، عاصمة الدولة الرستمية، ما زالت تحمل الكثير من الآثار التاريخية التي تذكر بفترة من أهم فترات التاريخ الإسلامي في المنطقة.
اترك تعليقاً